13/02/2022 - 22:14

زراعة الشكّ: مراقبة إسرائيل لفلسطينيّي أراضي 48 | حوار مع أحمد سعدي

زراعة الشكّ: مراقبة إسرائيل لفلسطينيّي أراضي 48 | حوار مع أحمد سعدي

عالم الاجتماع الفلسطينيّ أحمد سعدي

 

* فترة الحكم العسكريّ انتهت بطلب من المخابرات بعد تحقيق أهدافه.

* شاريت ودَيان كانا يعتقدان أنّ نهاية التعامل مع الأقلّيّة العربيّة يجب أن تكون الطرد.

* أهمّ ما أُنْجِزَ خلال فترة الحكم العسكريّ كان خلق حالة الشكّ بين الفلسطينيّين.

* العرب أصبحوا جزءًا من الدولة بعد إصدار وثيقة الاستقلال، لا قبلها. 

 

وُلِدَ عالم الاجتماع الفلسطينيّ أحمد سعدي عام 1958، وهو محاضر في قسم «السياسة والحكم» في «جامعة بن غوريون في النقب»، ومؤلّف لعدّة كتب أبرزها كتاب: «Nakb: Palestine, 1948, and the Claims of Memory» (2007) وشاركت في كتابته ليلى أبو لغد. إضافة إلى كتابه «الرقابة الشاملة: نشأة السياسات الإسرائيليّة في إدارة السكّان ومراقبتهم والسيطرة السياسيّة تجاه الفلسطينيّين»، الّذي صدرت ترجمته عام 2020 عن «المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات».

يقدّم الكتاب وصفًا للمؤسّسات والطرق الّتي استعملتها إسرائيل لحكم الفلسطينيّين منذ عام 1948 حتّى نهاية الحكم العسكريّ عام 1966، ويمكن تصنيفه وثيقة تؤرّخ لحياة الفلسطينيّين الّذين بقوا في ما بقي من مدنهم وقراهم بعد إعلان قيام إسرائيل، وتصف معاناتهم وحياتهم في تلك الحقبة الحاسمة من تاريخ المجتمع الفلسطينيّ في الأراضي المحتلّة عام 1948.

في هذا الحوار الّذي تجريه فُسْحَة – ثقافيّة فلسطينيّة مع سعدي، نتحدّث عن نشأة خطاب الرقابة الإسرائيليّة، وإرث فترة الحكم العسكريّ الإسرائيليّ، وآثاره الباقية في المجتمع الفلسطينيّ، وإمكانيّة مقاومته وآليّات تطبيقه.

 

فُسْحَة: أريد البدء باستعراض نشأة خطاب الرقابة الإسرائيليّة؛ سياق ظهور الخطاب، وكيفيّة تشكّله، وأسباب نشأته. هل كان ظهور خطاب الرقابة ناشئًا عن حيرة إسرائيليّة في التعامل مع أقلّيّة جامدة على المستوى السياسيّ وعلى مستوى الفعل الاجتماعيّ، أم نشأ نتيجة مقاومة هذه الأقلّية للمنظومة الإسرائيليّة الاستعماريّة؟

سعدي: الواقع أنّ السبب الحرص على يهوديّة الدولة، ذلك أنّ نسبة العرب لم تكن تتجاوز الـ 5% عند إعلان يهوديّة الدولة؛ فإذا نظرت إلى المناطق المخصّصة للدولة اليهوديّة في قرار التقسيم، ستجد دولة يهوديّة دون عرب تقريبًا. ولذلك كان السؤال المحيّر بالنسبة لهم مع نهاية الحرب "ماذا سنفعل بالأقلّيّة العربيّة الّتي بقيت؟"، وكان ثمّة ضرورة لتفسير وجود هذه الأقلّيّة، والإجابة أنّ وجودها نتج عن ظروف الحرب لا لأيّ عامل آخر، وهنا ظهر سؤال ماذا سنفعل بهذه الأقلّيّة. كان ثمّة حالة غضب لدى الطبقة الحاكمة الإسرائيليّة بسبب بقاء العرب في إسرائيل. سأعطيك مثالًا ونضعه في سياق أوسع، كثيرون في إسرائيل يعودون إلى وثيقة «إعلان الاستقلال» الّتي تحدّثت عن إسرائيل بوصفها دولة يهوديّة وديمقراطيّة، وهذان المكوّنان هما أساس تحديد هويّة إسرائيل، لكن إن دقّقت في الظروف الّتي نُشِرَت فيها هذه الوثيقة ستجد أنّها نُشِرَت قبل احتلال الجليل؛ أي أنّ العرب لم يكونوا جزءًا من الدولة الّتي يُفترَضُ أنّها تمنح المساواة لكلّ مواطنيها بغضّ النظر عن جنسهم أو دينهم، العرب أصبحوا جزءًا من الدولة بعد إصدار الوثيقة وليس العكس.

 

فُسْحَة: إذن، الافتراض الأساسيّ لهذه الوثيقة عدم وجود عرب في المستقبل أيضًا داخل الدولة...

أحمد: بل الهدف من إعلان الوثيقة أن تكون إسرائيل جزءًا من المجتمع الغربيّ ’المستنير‘، وفي وقت إعلانها كان العرب يشكّلون أقلّ من 5% من سكّان الدولة اليهوديّة، لكن بعد إعلانها ازداد عدد العرب نتيجة احتلال الجليل والتنازل عن المثلّث من قبل الملك عبد الله الأوّل، فَوُجِدَتْ ضرورة للتعامل مع الأقلّيّة العربيّة، وهنا ظهر توجّهان: الأوّل توجّه موشيه شاريت الّذي رأى الموضوع مركّبًا. كان شاريت ويزرًا للخارجيّة، وكان قد درس العلوم السياسيّة في «جامعة لندن» وسبق له أن شغل مسؤوليّة العلاقات الخارجيّة في «الوكالة اليهوديّة». رأى شاريت أنّ الأقلّيّات داخل إسرائيل تضع القيادة الإسرائيليّة في أزمة؛ لأنّ تعاملها مع هذه الأقلّيّات قد ينعكس على أقلّيّات يهوديّة في مجتمعات أخرى. في المقابل، كان توجّه لموشيه دَيان الّذي دعا إلى وضع الأقلّيّة العربيّة في محميّات إلى أن يكون طردهم ممكنًا. كلاهما اعتقدا أنّ نهاية التعامل مع الأقلّيّة العربيّة يجب أن تكون الطرد في حال اندلاع حرب بين إسرائيل والدول العربيّة.

 

فُسْحَة: هل أدّت مقاومة الفلسطينيّين لبنية الرقابة ونشأتها دورًا في تطوير خطط الرقابة الإسرائيليّة وتغيّرها بين الحين والآخر؟

سعدي: في الواقع لم أرَ تغيّرًا في الخطط المختلفة، لم يكن ثمّة تغيّر بقدر ما كان ثمّة تجديد وتطوير لهذه الخطط، فمثلًا، إذا تكلّمنا عن «خطّة توليدانو» الّتي انشغلت بمسألة الديمغرافيا -وهي المسألة الّتي شغلت الإسرائيليّين منذ بداية الاستعمار الصهيونيّ حيث كان ثمّة ضرورة للحفاظ على العرب عند 11% من مجموع السكّان، ومن ثمّ 17%، إلخ- سترى أنّ توليدانو كان أوّل من تكلّم عن موضوع الإنجاب وضرورة تعليم النساء العربيّات لخفض نسبة إنجابهنّ. هكذا ترى أنّ التطوير في «خطّة توليدانو» قد  تجسّد في «وثيقة كينيج» الّتي ظهرت عام 1976 وكانت سببًا أساسيًّا في اندلاع أحداث «يوم الأرض». وكان كينيج قد أضاف عاملًا إضافيًّا وهو تشجيع الطلّاب الفلسطينيّين على التعلّم في الخارج ووضع عراقيل أمام عودتهم واندماجهم في المجتمع مرّة أخرى. فالمسألة هي مسألة تحديث أو تطوير وليس تغيّرًا في الخطاب الإسرائيليّ.

 

فُسْحَة: كيف أثّرت فترة الحكم العسكريّ في البنية التحتيّة للمجتمع الفلسطينيّ سياسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا، وفي تطوّره المستقبليّ؟ وكيف فشلت هذه الخطط في تحقيق أهدافها، خاصّة أنّها سعت إلى إعاقة تنظيم الفلسطينيّين أنفسهم، سياسيًّا واجتماعيًّا، ومع ذلك تمكّن الفلسطينيّون من خلق هذه التنظيمات بعد نهاية الحكم العسكريّ؟

سعدي: فترة الحكم العسكريّ انتهت بطلب من المخابرات لأنّ أهداف الحكم العسكريّ كانت قد تحقّقت من خلال إقامة علاقات بنيويّة مع العرب، حيث مَوْضَعَتْهم المؤسّسة على هامش المجتمع الإسرائيليّ، فضلًا عن مصادرة الأراضي وقضيّة التعليم. إضافة إلى شيء مهمّ جدًّا تمثّل في خلق حالة من الشكّ المستمرّ بين الفلسطينيّين أنفسهم، بحيث تتمكّن الدولة من شرذمتهم. على سبيل المثال، كانت فئة المعلّمين أو العاملين في القطاع العامّ من أكثر الفئات الّتي نقل بعض أفرادها المعلومات أو سرّبوها إلى المخابرات. لذلك أعتقد أنّ أهمّ ما أُنْجِزَ خلال فترة الحكم العسكريّ كان خلق حالة الشكّ بين الفلسطينيّين بدفعهم إلى الشكّ في قدرة الفلسطينيّ على تحصيل أيّ شيء نتيجة لكفاءته، بل نتيجة لتعاونه، وتلك الشكوك لا تزال جزءًا من المجتمع الفسطينيّ حتّى اليوم.

أتذكّر أنّني كنت في محاضرة وسألتني مجموعة من الطلبة: "أخبرنا مَنْ الّذي أدخلك إلى هذه الجامعة؟"، ووراء ذلك السؤال افتراض أنّ الإنسان الفلسطينيّ لا يمكنه تحقيق شيء بقدراته الذاتيّة، ويجب أن يكون متعاونًا حتّى يحصل على مركز جامعيّ مثلًا، أو على الأقلّ أن يكون مرضيًّا عنه من قبل الدولة وأجهزتها. البعض - وهنا أتكلّم عن الأوساط الجامعيّة - يعتقد أنّ الحصول على تثبيت وظيفيّ لا يأتي إلّا عبر المحاباة، وأن تكون الشخصيّة الّتي توافق على كلّ شيء وتنفّذ سياسات السلطة. من الصعب حصر ضرر الحكم العسكريّ على البنية النفسيّة والعقليّة للمجتمع الفلسطينيّ.

 

فُسْحَة: هل يمكن القول إذن إنّ الأثر الأكبر لفترة الحكم العسكريّ - الّذي لا يزال باقيًا حتّى الآن - هو زرع حالة الشكّ في النفس وفي الآخر فلسطينيًّا؟

سعدي: تمامًا، وهذه الحالة تعني غياب المعايير الموضوعيّة لتقييم الشخصيّة الفلسطينيّة أو التفكير فيها، وذلك ما ينعكس على سلوكيّات الفلسطينيّين؛ فتجد مثلًا نموذج الشخصيّة المتعلّمة الّتي توافق على كلّ شيء ظنًّا منها أنّها بذلك ستحصّل المزيد من المكاسب من المؤسّسة الإسرائيليّة، رغم أنّها شخصيّة متعلّمة حاصلة على أعلى الدرجات العلميّة ويجب أن تكون شخصيّة مفكّرة وناقدة. من الغريب أنّ ثمّة شخصيّات بَنَتْ حياتها على هذا التذلّل للآخر واستصغار النفس، بل استصغار المجتمع نفسه أيضًا، وذلك ما يمكن استشعاره في مقولات مثل: "نحن مجتمع تقليديّ"، "نحن مجتمع متأخّر"، "هكذا هم العرب"، ولا شكّ أن مقولات كهذه تعود بداياتها إلى فترة الحكم العسكريّ.

 

فُسْحَة: قلت إنّ المخابرات مَنْ أوصت بإنهاء الحكم العسكريّ، لكن لاحقًا ظهرت الأحزاب السياسيّة العربيّة في أراضي 48؛ فهل كان هذا الظهور نتيجة عمل تراكميّ في الماضي؟

سعدي: الأحزاب السياسيّة بدأت بالظهور خلال ثمانينيّات القرن الماضي. «الحزب الشيوعيّ» كان حزبًا يهوديًّا عربيًّا وليس عربيًّا. من ثمّ ظهرت «الحركة التقدميّة للسلام والمساواة» الّتي كان محمّد ميعاري ومَتِتْياهو بيلد جزءًا منها. كان «الحزب الديمقراطيّ العربيّ» الّذي أسّسه عبد الوهاب دراوشة عام 1988 خلال الانتفاضة الأولى، أوّل حزب عربيّ في أراضي 48.

 

فُسْحَة: هل كان ثمّة حكمًا عسكريًّا غير معلن بعد عام 1968؟

سعدي: التغيّر الجذريّ في السياسة الإسرائيليّة تجاه الأقلّيّة العربيّة لم يحصل حتّى عام 1976، أي بعد وصول «الليكود» إلى الحكم. قبل ذلك ارتبطت منظومة السيطرة بـ «حزب العمل»؛ فالمخابرات ونقابات العمّال كانت بيد هذا الحزب، ومع نهاية حكم «حزب العمل» لم يكن ثمّة اهتمام لدى «الليكود» بالتعامل مع العرب في إطار السياسة نفسها، فقد كان ينظر إلى العرب بوصفهم أعداءً وسعى إلى فرض نوع من السيطرة المعادية المعلنة، لا السيطرة المعادية غير المعلنة كما كان الحال من قبل. هنا بدأ العرب يشعرون بنوع مختلف من السياسات الموجّهة ضدّهم.

 

 كتاب «الرقابة الشاملة: نشأة السياسات الإسرائيليّة في إدارة السكّان ومراقبتهم والسيطرة السياسيّة تجاه الفلسطينيّين»

 

فُسْحَة: تكلّمت عن فكرة التحديث الّتي وصفتها "أداةً اسْتُخْدِمَت لتحديث القرى والبلدات العربيّة لجعلها أكثر عرضة للاختراق والرقابة الصهيونيّة"، هل يمكنك الحديث عن ذلك بتوسّع؟

سعدي: كان التحديث على عدّة مستويات: أوّلًا، أُنْشِئَت مقارنة ما بين «الكيبوتس» اليهوديّ المتطوّر وبين المجتمع العربيّ ’المتخلّف‘، ليصبح هدف الشباب العربيّ تقليد طريقة عيش «الكيبوتس» اليهوديّ. وهنا يشير معنى التحديث إلى ازدراء العادات والتقاليد العربيّة والتماثل مع قيم المجتمع اليهوديّ، وبخاصّة «الكيبوتسات».

المستوى الثاني من التحديث يعود إلى خطّتين خماسيّتين لتطوير المجتمع العربيّ من خلال شقّ الطرقات وتوصيل الكهرباء والهاتف. كان الهدف من تلك الخطط تسهيل عمليّات الرقابة؛ فقد قال أحد المسؤولين الصهاينة إنّك إن سافرت في شارع وادي عارة ليلًا لن ترى إلّا الظلام، فإذا أَنَرْتَ هذه القرى ستراهم ليلًا نهارًا. كتب فوكو من قبل: "الظهور مصيدة"، ولذلك فإنّ ظهور العرب مصيدة لهم، تجعلهم تحت عين المراقبة الإسرائيليّة دائمًا. كذلك كان التحديث حاضرًا من خلال المجالس المحلّيّة الّتي كانت إحدى غاياتها إثارة النعرات العائليّة، ومن المهمّ ذكر أنّ غالبيّة القرى العربيّة وكياناتها السياسيّة كانت تتبع «حزب العمل» وتنافس بعضها البعض في هذا الإطار، الّذي تضمّن صدامات عائليّة تصل حدّ القتل أحيانًا.

يرتبط التحديث إذن بالسيطرة، فإذا فكّرنا بكلّ وسائل التحديث سنجدها مرتبطة بجعل الإنسان في حالة رقابة مستمرّة. كنت قد كتبت مقالًا نُشِرَ في مجلّة «Race and Class»، عن العلاقة بين الوسائل الإسرائيليّة التقليديّة والوسائل الحديثة الّتي تُستَعْمَلُ اليوم مثل برنامج «بيغاسوس» أبيّن فيه استمراريّة التفكير نفسه. التجسّس كان حاضرًا منذ بداية النظام الاستعماريّ، فمثلًا قبل وصول وايزمان إلى البلاد عام 1920 كان ثمّة وحدات تجسّس صهيونيّة تبحث كيفيّة إثارة النعرات الطائفيّة بين المسيحيّين والمسلمين، في محاولة لشرذمة المجتمع لغاية السطيرة عليه، وهي العقليّة ذاتها المسيطرة اليوم.

 

فُسْحَة: تناقش في الكتاب فكرة إيان لوستيك عن منظومة تقوم على التجزئة والاستقطاب والتبعيّة، لكنّ لوستيك لا يأتي على ذكر إستراتيجيّة معتمدة. ما الّذي يعنيه تأكيدك وجود خطّة؟ وحتّى لو كانت هذه الخطّة المسبقة موجودة، هل يعني ذلك أنّ الحكومة أو الطبقة المهيمنة هي الّتي تفرض أيديولوجيا العنصريّة أو العداء أو الرقابة؟ أم المجتمع مَنْ يُنْتِج هذه الطبقة الّتي تُنْتِج هذه المنظومة، وإذن فوجود خطّة من عدمه ليس أساسيًّا مقارنة بإدراك وجود مجتمع مجيَّش بالكامل وينتج - بشكل آليّ تقريبًا - العداء للآخر والطبقة الّتي تصنع منظومة الهيمنة على الآخر؟

سعدي: أعتقد أنّ الطبقة الإسرائيليّة الحاكمة لطالما امتلكت الآليّات المنتجة. المجتمع الإسرائيليّ اليوم مجتمع مجيَّش Mobilized Society، مثله مثل أيّ مجتمع استعماريّ آخر. مثلًا، كان الاستعمار البريطانيّ يرسل المجرمين إلى أستراليا، وكانوا يعلّمونهم أنّهم فور وصولهم إلى هناك يصبحون أشخاصًا حديثين Modern Persons، ليسوا حديثين فحسب، بل هم هناك لخدمة أنفسهم وفي خدمة بلادهم أيضًا. بمجرّد وصول هؤلاء إلى تلك البلاد يفكّرون بأنفسهم أصحابَ حقّ، وبوصفهم الطبقة الحاكمة لمجرّد أنّهم إنجليزيّون بيض يتمتّعون بمزايا لا تتوفّر للسكّان الأصلانيّين؛ فالبنية الاستعماريّة تنتج الإنسان المستعمِر الّذي يتّصف بهذه الصفات، وليس ثمّة مستعمِر جيّد. لا أعتقد أنّ المجتمع الاستعماريّ غير مدرك للسياسات العنصريّة، لكنّه أوجد الآليّات الّتي تمكّنه من التعايش مع الواقع.

 

فُسْحَة: ما أفترضه أنّ المجتمع الاستعماريّ مَنْ يُنتِج آليّات الإقصاء بغضّ النظر عن إدراكه لوجود العربيّ أو لصوته الغريب...

سعدي: لا شكّ في ذلك، ضع نفسك مكان المستعمِر، كيف يمكن له التعايش فكريًّا وضميريًّا مع واقع أنّه يعيش في بيت ليس بيته أو أرض ليست أرضه؟ هنا تتولد حاجة إلى تطوير آليّات وأفكار وأيديولوجيا تفسّر طبيعة وجوده، وتضفي نوعًا من البراءة والجاذبيّة على هذا الوجود، مثل تفكير الإسرائيليّين بأنّهم قد ساعدوا العرب، أو أنّهم يعيشون حياة بطوليّة، وثمّة معنًى بطوليّ لحياتهم يتمثّل في الجيش. كما أنّ الشعور بالاستعلاء والاستقواء يمنح بعضهم شعورًا بالتفوّق، وهنا بالإمكان التفكير بالمستوطنين الّذين يستمتعون بشعورهم بأنّهم أصحاب الأرض ويمكنهم الهيمنة على الآخر العربيّ.

 

فُسْحَة: ثمّة طريقتان للتفكير في الاستعمار الاستيطانيّ: الأولى أنّ النظام الاستعماريّ مَنْ يخلق الواقع - بما في ذلك واقع المستعمَر - حيث تكون المنظومة شكلًا وفعلًا مشكَّلة من الأعلى، وفي الثانية التفكير بالنظام الاستعماريّ بصفته نتيجةً للمقاومة الدائمة لهذه البنية، وهنا تكون المنظومة شكلًا وفعلًا مشكَّلة بفعل انتشاريّة الأفعال المقاومة لها؛ أين ترى سياسات الرقابة الاستعماريّة الصهيونيّة من هذين المنظورين؟

سعدي: لنأخذ «حاجز قلنديا» مثالًا: في البداية جرّب الناس الوصول إلى القدس من خلال طرق التفافيّة لتجاوز الحاجز والجدار، لكن في النهاية مَنْ قرّر شكل حياة الناس في رام الله وغيّر فيها هو الجدار وإمكانيّة المرور منه. لا أتّفق مع رَمْزَنَة المقاومة أو رَمْسَنَتِها بهذه الكثافة؛ هذه الرَّمْسَنَة جديدة نسبيًّا على الخطاب السياسيّ الفلسطينيّ، وفيها تبسيط شديد للواقع لا أتّفق معه. أعتقد أنّ الإنسان يمكنه التعبير عن ذاته، وذلك التعبير بحدّ ذاته يمكن وصفه بفعل مقاومة، لكنّ ذلك التعبير غير قادر على إضعاف نظام السيطرة. يمكنه الدفاع عن كرامته وقيمه الخاصّة، وذلك يمكن أن يأتي عبر الرسم، الكتابة، الرفض، لكنّ هذه الأفعال كلّها ليست أدواتٍ لزعزعة نظام السيطرة وليست أدواتٍ تمكّن فاعلها من التهرّب منه، بل هي تعبير عمّا هو أعمق من ذلك.

كتب برونو بِتِلْهايم من قبل، أنّه حتّى في معسكرات النازيّة كان الإنسان يعبّر عن ذاته في الرسومات والأدب، وكان ثمّة مَنْ حاول الهرب ومَنْ فضّل الموت، إلخ. هؤلاء لم يجرّبوا إضعاف سيطرة النازيّة وزعزعة نظام المعسكر، بل عبّروا عن إنسانيّتهم من خلال هذه الأفعال. أعتقد أنّنا، الفلسطينيّين، وفي ظلّ غياب أيّ تنظيم جمعيّ ومنظّمات قادرة على النهوض بعمل جماعيّ، لا نملك غير التعبير عن إنسانيّتنا، وذلك بحدّ ذاته فعل مواجهة، وهو ما يجب التشديد عليه؛ التعبير عن إنسانيّة الإنسان. إنسانيّة الإنسان هي الّتي يجب الدفاع عنها ضدّ الاستلاب من خلال الأدب، السينما، الفنّ، المظاهرات. أمّا أن نستعمل نظريّات جيمس سكوت ورَمْزَنَة عمليّات المقاومة الّتي لا تسعى إلى زعزعة نظام السيطرة، أعتقد أنّ ذلك لا يفسّر ولا ينطبق على المجتمع الفلسطينيّ ونظام السيطرة الإسرائيليّة المفروض عليه.

 

فُسْحَة: هل تعني أنّ نظام السيطرة الإسرائيليّة غير قابل للكسر أو للمقاومة؟

سعدي: أقصد أنّ لهذا النظام حدودًا تضيق وتتّسع تبعًا لقدرة الناس على التعبير عن إنسانيّتهم ورفضهم للظلم، ذلك الشيء الوحيد الّذي يمكن فعله لوضع حدّ لأنظمة الرقابة والسيطرة في ظلّ غياب أيّ تنظيم جمعيّ قادر على مواجهة هذه الأنظمة. 

 


 

أنس إبراهيم

 

 

 

كاتب وباحث ومترجم. حاصل على البكالوريوس في «العلوم السياسيّة»، والماجستير في «برنامج الدراسات الإسرائيليّة» من «جامعة بير زيت». ينشر مقالاته في عدّة منابر محلّيّة وعربيّة، في الأدب والسينما والسياسة.

 

 

التعليقات